طبيعة المعركة: أفضلية القتال برّاً


يمكن عزو نجاح المقاومة اللبنانية في صدّ التوغّل البري لقوّات النخبة في الجيش الصهيوني، بعد أكثر من شهر على بدايته، إلى جملة من الأمور والمحدّدات العسكرية والجيوسياسيّة، أهمُّها الجاهزية القتالية التي لم تنقطِع حتى في ذروة التعرّض لضربات سلاح الجوّ الإسرائيلي، وعدم المساس كثيراً بمنظومة القيادة والسيطرة لديها، بدليل الإدارة الصارمة للعمليات القتاليّة، عند خطّ القرى الأمامية جنوباً.


فلسفة المجابَهة البرّية
هذا التزاوُج بين الجاهزية العسكرية والحفاظ ما أمكَن على منظومة القيادة والسيطرة، لم يضعِف الفاعلية القتاليّة للتدخُّل البرّي الصهيوني فحسب، عبر صدّ موجاته المتوالية، بل ساهمَ أيضاً في فكّ التضافُر بينه وبين الغطاء الجويّ، الذي تتمحور حوله مجمل فلسفة القتال الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية. والحصيلة المعلَنة لهذا النوع من التشبيك في إدارة الحرب غير المتناظِرة مع الصهاينة، هي تكبيد العدوّ، لغاية اللحظة، عشرات القتلى في صفوف قوّات النخبة لديه، فضلاً عن الخسائر التي حلّت بالموارد العسكرية التي خُصّصت للعمليات القتالية هناك، من دبابات ومدرّعات وناقلات جند وسواها الكثير. الانفلات الذي حصل للقوّة الجويّة الإسرائيلية، بعد سلسلة الضربات الأولى للمقاومة، كان له بهذا المعنى مفعول جيوسياسي، لا يعبّر بشكل دقيق وفعلي عن واقع العمليات القتالية التي كلّما تقدّم القتال فيها ازدادت حصّة العمليات البريّة منها على حساب نظيرتها من الجوّ. وهذا ما سَمَح لحكومة الحرب بدايةً بالتلويح، في كلّ مرّة يحصل فيها تقدّمٌ للعدو بدفع من فاعلية سلاح الجوّ وحده، بفلسفة اليد الطويلة لإسرائيل، ليس في غزّة ولبنان فحسب بل في الإقليم كلّه.

ليست ثمّة مرونة هنا في الاستراتيجيا العسكرية، بحيث يعود الزخم إلى الفاعلية الجويّة، فور تعذّر تحقيق تقدّم في المواجهات البرّية


هشاشة السيطرة الجوّية
«التفوّق الجوّي» لسلاح الجوّ الصهيوني، المقترِن باستخدام متقدِّم للتكنولوجيا العسكرية والمزوَّد ببنك أهداف كبير، ساعَدَ، بهذا المعنى، على ظهور حكومة الحرب بمظهر لا يتناسب مع الطبيعة الفعلية للمعركة على الجبهة اللبنانية. «الردع» هنا، كما تمّ تقديمه من جانب حكومة الحرب، لم يُستعَد بفضل إنجازات عسكرية ميدانية، تتّسق مع شكل المعركة البرّية مع حزب الله، بل بمساعدة أفضلية جويّة وتكنولوجية، نسبية، لا يمكنها إدامة التفوّق السيبراني والجوّي، من دون خسارة الأجزاء الأخرى من السيطرة، التي لا تؤمّنها هذه الأفضلية. وهذا ما يفسّر عودة الزخم للغارات الجويّة على المُدُن والعمق الجغرافي في لبنان باتجاه البقاع، شمالاً، كلّما حصل إخفاق جديد في التقدُّم براً، إلى ما هو أبعد من خطّ القرى الأمامية جنوباً . ليست ثمّة مرونة هنا في الاستراتيجيا العسكرية، بحيث يعود الزخم إلى الفاعلية الجويّة، فور تعذّر تحقيق تقدّم في المواجهات البرّية، ولا حتى تكتيك عسكري يقوم على المزج بين الفاعليتين الجويّة والبرّية. كلّ ما في الأمر أنّ صورة «الردع» التي جرى بناؤها، على ضوء تسلسُل الضربات الجزئية للمقاومة، لم تعد تعمل كما يجب، مع اتضاح، ليس فقط الطبيعة الفعليّة للمعركة في جنوب لبنان، بل أيضاً الفارق بين القتال المتناظِر على الأرض، والذي يسمح بتعادل جزئي للقوّتين المتواجهتين، ونظيرِه من الجوّ، الذي تتحقّق «السيطرة» فيه بسهولة مطلقة، نظراً إلى غياب الخصم وقوّته تماماً، إلا كهدف أو مجموعة من الأهداف، على الأرض.


خاتمة
هذا لا يعطي فكرة مشوَّشة عن قوّة الخصم فحسب، بل يساعِد أيضاً على استعادة المقاومة التي يجري «اجتثاثها» من الجوّ فقط، كثيراً من قوَّتها بمجرّد تعديل طبيعة المعركة، بحيث يُوضَع «التفوق الجوّي والتكنولوجي الإسرائيلي» على المحكّ، ما إن يُستعاد الطابع البريّ للقتال. وحتى لو استمرّ تسليط الضوء أكثر على نتائج الحملة الجويّة الصهيونية، لجهة حجم الاجتثاث والتقتيل الحاصل للبيئة الحاضنة، بفعل القوّة النارية التدميرية والانحياز الإعلامي ضدّ المقاومة، فإنّ الطابع البرّي للمعركة، مسنوداً بأنماط القتال الموازي عبر الصواريخ والمُسيَّرات، سيعود ليحتلّ موقِعه الطبيعي، بوصفِه المحدّد لطبيعة المعركة ومآلاتها. يساعِده في ذلك، ليس فحسب الطابع الدفاعي للقتال الأغواري الذي يتجنّب المسّ بالمدنيين قدر الإمكان، حتى الصهاينة، بل أيضاً تمحوُر الحراك السياسي الخاصّ بوقف إطلاق النار حولَه، لجهة الأرجحيّة في تحديد طبيعة من تقدّم في المعركة ومن لم يفعَل. القتال من الجوّ، مع كلّ أعمال القتل والتدمير والاجتثاث المصاحِبة له، لا يتيح هذه الإمكانيّة، بفعل طبيعته غير المتناظِرة، والتي تحجب قوّة الخصم وتموِّهها، عبر إظهارها في موقع صفري ضمن العملية التفاوضية، ما يجعل الاتكال عليها، بالنسبة إلى العدوّ، حتى في التفاوض سياسياً على إنهاء الحرب، إذا حصل، بمثابة خديعة أُخرى، تضاف إلى نظيرتها الخاصّة بإمكانية حسم المعركة من الجوّ.
* كاتب سوري

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي